المیزان لغة واصطلاحاً وخلاف العلماء فیه

المیزان لغةً:

المیزان مأخوذ من (وزن)، (یزن)، (وزنًا)، و(زنةً)، وأصله (مِوزَان) انقلبت الواو یاءً لکسر ما قبلها فصار (میزان)، ویتعدَّی باللام وبدونها.

قال الجوهری رحمه الله تعالى: "... وأصله مِوْزانٌ، انقلبت الواو یاءً لکسر ما قبلها... ووزنتُ الشیء وزنًا وزِنَة، ویقال: وَزَنْتُ فلانًا ووَزَنْتُ لفلان، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا کَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ یُخْسِرُونَ ﴾ [المطففین: 3]، وهذا یزن درهمًا"[1].

ومن معانیه حسب مشتقاته لغةً: الدلالة على التعدیل والاستقامة، وقدر وزن الشیء، المحاذاة بین الشیئین والرَّجاحة فی الرأی.

قال ابن فارس[2] رحمه الله تعالى: "الْوَاوُ وَالزَّاءُ وَالنُّونُ: بِنَاءٌ یَدُلُّ عَلَى تَعْدِیلٍ وَاسْتِقَامَةٍ: وَوَزَنْتُ الشَّیْءَ وَزْنًا، وَالزِّنَةُ قَدْرُ وَزْنِ الشَّیْءِ، وَالْأَصْلُ وَزْنَةٌ... وَهَذَا یُوَازِنُ ذَلِکَ، أَیْ: هُوَ مُحَاذِیهِ، وَوَزِینُ الرَّأْیِ: مُعْتَدِلُهُ، وَهُوَ رَاجِحُ الْوَزْنِ: إِذَا نَسَبُوهُ إِلَى رَجَاحَةِ الرَّأْیِ وَشِدَّةِ الْعَقْلِ"[3].

وقد أطلقت أیضًا لفظة الوزن والمیزان على عدَّة معانٍ أخرى، فهو یطلق ویراد به بیان قدر الشیء وقیمته، أو خسَّة الشیء وسقوطه، کما قال الله تعالى: ﴿ فَلَا نُقِیمُ لَهُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَزْنًا ﴾[4].

قال ابن الأعرابی[5] رحمه الله تعالى: العرب تقول: "ما لفلان عندنا وَزْن، أی: قدر؛ لخسَّته... ویقال: وزن الشیء إذا قدره، وزن ثمر النخیل إذا خرصه"[6].

وذکر الأزهریُّ حمه الله تعالى بعدما تقدَّم من تلک المعانی اللغویة: أنَّ المیزان یأتی فی باب اللُّغة مرادًا به المیزان ذو الکفَّات، ویأتی مرادًا به العدل أیضًا، کما یأتی ویراد به الکتاب الذی فیه أعمال الخلق، ثم قال: وهذا کله فی باب اللُّغة والاحتجاج سائغ[7].

وقال الراغب الأصفهانی رحمه الله تعالى: "الوَزْنُ: معرفة قَدْر الشیء... والمتعارف فی الوَزْنِ عند العامَّة: ما یقدَّر بالقسط والقبَّان"[8].

"ثم ذکر بعضَ الآیات التی تدلُّ على أنه یأتی مرادًا به المعدلة فی جمیع ما یتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال، مثل قوله تعالى: ﴿ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِیمِ ﴾[9]، ﴿ وَأَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ﴾[10]"[11].

"وأنَّه یأتی بمعنى العدل فی محاسبة الناس، کما قال الله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِینَ الْقِسْطَ لِیَوْمِ الْقِیَامَةِ ﴾[12]"[13].

المیزان اصطلاحًا:

والمراد به فی الاصطلاح الشرعی: المیزان هو الذی أخبر الله تعالى عنه فی القرآن وبیَّنه الرسولُ فی الأحادیث، وهو میزان حقیقی له لسان وکفَّتان توزن فیه أعمال العباد من الخیر والشر.

وقد أخبرنا الله تعالى عنه فی القرآن الکریم إخبارًا إجمالیًّا وبیَّنته السنة النبویة، ویجیء به الله تعالى یوم الحساب لتقدیر أعمال الخلق، وقد أجمع المسلمون على وجوده.

قال السفارینی رحمه الله تعالى: "فَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّهُ مِیزَانٌ حَقِیقِیٌّ ذُو کِفَّتَیْنِ وَلِسَانٍ،... وَقَدْ بَلَغَتْ أَحَادِیثُهُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَانْعَقَدَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الْمُسْلِمِینَ عَلَیْه"[14].

خلاف العلماء فی المیزان:

وقد اختلف العلماء فی وحدة المیزان وتعدُّده على مذهبین:

المذهب الأول: القائلون بتعدد المیزان:

قال الحسن البصری رحمه الله تعالى: "بلغنی أن لکل أحد یوم القیامة میزانًا على حدة"[15].

وقال بعضهم: الأظهر إثبات موازین یوم القیامة لا میزان واحد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِینَ ﴾، وقوله: ﴿ فمَن ثَقُلَتْ مَوَازِینُهُ ﴾[16].

وقالوا: وعلى هذا فلا یبعد أن یکون لأفعال القلوب میزان، ولأفعال الجوارح میزان، ولما یتعلق بالقول میزان.

المذهب الثانی: القائلون بوحدة المیزان:

فذهب هؤلاء إلى أن لکل فرد میزانًا خاصًّا به أو لکل عمل میزان خاص به؛ لقوله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِینَ الْقِسْطَ لِیَوْمِ الْقِیَامَةِ ﴾[17].

وأجابوا عن جمع کلمة (الموازین) فی الآیة: إلى أن المیزان واحد، وأن الجمع فی الآیة إنما هو باعتبار تعدُّد الأعمال أو الأشخاص.

وقد رجَّح ابن حجر العسقلانی رحمه الله تعالى بعد حکایته الخلاف أن المیزان واحد، وقال: "والذی یترجح أنه میزان واحد، ولا یشکل بکثرة من یوزن عمله؛ لأن أحوال القیامة لا تکیَّف بأحوال الدنیا"[18].

وحَسَّنَ السفارینی رحمه الله تعالى القول بوحدة المیزان بعد ذکر الإجابة عن جمع کلمة (الموازین) فی الآیة بقوله: "وَهُوَ حَسَنٌ"[19].

والذی تمیل إلیه النفس وأراه صوابًا - والله أعلم بالصواب - أن المیزان واحد وجمعه باعتبار الموزون.

ومن المعاصرین الذین یرون هذا القول الشیخ العثیمین رحمه الله تعالى فی الجواب عن سؤال عن وحدة المیزان وتعدده، فقال - بعد ذکر الخلاف بین أهل العلم -: "الذی یظهر - والله أعلم - أن المیزان واحد، لکنه متعدد باعتبار الموزون"[20].

اللهم اجعلنا من الذین ثقلت موازینهم ولا تجعلنا من الذین خفت موازینهم.. آمین یارب العالمین.

[1] "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربیة"؛ للجوهری، مادة: (و ز ن)، (6/ 2213).

[2] ابن فارس (329 395 هـ = 941 1004 م)، هو: أحمد بن فارس بن زکریا بن محمد بن حبیب، أبو الحسین الرَّازیُّ القزوینی، المعروف بالرازی المالکی اللغوی، ولد فی قزوین، ومن أساتذته: أبوه فارس بن زکریا، وعلی بن إبراهیم بن سلمة القطان... ومن أشهر تلامذته: أدیب همذان المعروف ببدیع الزمان الهمذانی، وأبو طالب بن فخر الدَّولة البویهی، و... وله من التصانیف: کتاب المجمل، ومتخیر الألفاظ، وغریب إعراب القرآن، و... والثناء علیه: قال الذهبی: "وکان رأسًا فی الأدب، بصیرًا بفقه مالک، مناظرًا متکلِّمًا على طریقة أهل الحق، ومذهبه فی النحو على طریقة الکوفیین..."، وتوفِّی فی 395 هـ، بالرَّیِّ، ودُفن بها مقابل مشهد قاضی القضاة أبی الحسن علی بن عبدالعزیز، یعنی: الجرجانی.

راجع: "سیر أعلام النبلاء"؛ للذهبی، (17/ 103 107)، و"معجم الأدباء = إرشاد الأریب إلى معرفة الأدیب"؛ لشهاب الدین أبی عبدالله یاقوت بن عبدالله الرومی الحموی (المتوفى: 626هـ)، (1/ 410 418)، المحقق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامی، بیروت، الطبعة: الأولى، 1414 هـ 1993 م، عدد الأجزاء: (7)، و"الأعلام"؛ للزرکلی، (1/ 193).

[3] "معجم مقاییس اللغة"؛ لأحمد بن فارس بن زکریاء القزوینی الرازی، أبی الحسین، (المتوفى: 395 هـ)، مادة: (و ز ن)، (6/ 107)، المحقق: عبدالسلام محمد هارون، دار الفکر، عام النشر: 399 هـ 1979 م، عدد الأجزاء: (6).

[4] سورة الکهف: (105).

[5] ابن الأعرابی (150 - 231 هـ = 767 - 845 م)، هو: أبو عبدالله، محمد بن زیاد، مولى بنی هاشم، یعرف بابن الأعرابی، عالم بالعربیة وأیام العرب وأنساب القبائل وروایة الأشعار، ولد بالکوفة، وکان أبوه عبدًا من السِّند مولى للعباس بن محمد بن علیٍّ الهاشمی الذی أعتقه، أخذ اللغة وعلوم العربیة عن أبی معاویة الضریر، والمُفضَّل الضَبِّی، و... اتَّصل بالخلیفة المأمون وکانت له حظوة عنده، وکان من الذین برعوا فی التعلیم، فقال فیه ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابی، ناقش علماءَ اللغة، واستدرک علیهم، وکان یتحرج من شرح ألفاظ القرآن، أخذ عنه کثیرون، منهم: إبراهیم الحربی، وثعلب، وغیرهم، ومات بسر من رأى (سامراء)، ومن تصانیفه: النوادر، والأنواء، والنخل، و...

راجع: "سیر أعلام النبلاء"؛ للذهبی، (10/ 678 - 688)، و"وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان"؛ لابن خلکان، (4/ 306)، و"الأعلام"؛ للزرکلی، (6/ 131).

[6] "تهذیب اللغة"؛ للأزهری، مادة: (و ز ن)، (13/ 175).

[7] راجع: المصدر السابق.

[8] "المفردات فی غریب القرآن"؛ للراغب الأصفهانی، (ص 868).

[9] سورة الشعراء: (182).

[10] سورة الرحمن: (9).

[11] راجع: "المفردات فی غریب القرآن"؛ للراغب الأصفهانی، (ص 868).

[12] سورة الأنبیاء: (47).

[13] راجع: المصدر السابق.

[14] لوامع الأنوار البهیة وسواطع الأسرار الأثریة لشرح الدرة المضیة فی عقد الفرقة المرضیة للسفارینی، (2/ 185).

[15] أورده ابن عطیة فی تفسیره المحرر الوجیز فی تفسیر الکتاب العزیز، (2/ 376)، المحقق: عبدالسلام عبدالشافی محمد، دار الکتب العلمیة بیروت، الطبعة: الأولى 1422 هـ، ونسبه إلى الحسن البصری رحمه الله تعالى.

[16] سورة الأعراف: (8).

[17] سورة الأنبیاء: (47).

[18] "فتح الباری شرح صحیح البخاری"؛ لابن حجر العسقلانی، (13/ 538).

[19] لوامع الأنوار البهیة وسواطع الأسرار الأثریة لشرح الدرة المضیة فی عقد الفرقة المرضیة للسفارینی، (2/ 186).

[20] مجموع فتاوى ورسائل فضیلة الشیخ محمد بن صالح العثیمین؛ لمحمد بن صالح بن محمد العثیمین (المتوفى: 1421هـ)، (2/ 44)، جمع وترتیب: فهد بن ناصر بن إبراهیم السلیمان، الناشر: دار الوطن دار الثریا، الطبعة: الأخیرة 1413 هـ، عدد الأجزاء: (26).

وبلاگ رسمی دکتور محمد طاهر قاسمی

وبلاگ رسمی دکتور محمد طاهر قاسمی

درباره من

تقویم